أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

آخر الأخبار

الزهد في الدنيا وحقيقة الاستعداد للآخرة

أحاديث عن الزهد في الدنيا,علامات الزهد في الدنيا,قصص عن الزهد في الدنيا

الزهد في الدنيا وحقيقة الاستعداد للآخرة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

من سنن الله تعالى في خلقه، ومن دلائل حكمته البالغة، أن الدنيا ليست دار مقام ولا موطن خلود، وإنما هي دار ابتلاء وامتحان، يعبرها العبد إلى دار القرار، فإما نعيم مقيم، وإما عذاب أليم. ولأجل هذه الحقيقة الكبرى، زوى الله تعالى الدنيا عن أوليائه، وحماها عن أصفيائه، وأخرجها من قلوب أهل وداده، لأنه سبحانه لم يرضها لهم جزاءً ولا غاية.

وقد قال الإمام الجنيد رحمه الله: «سمعت سريًّا يقول: إن الله تعالى سلب الدنيا عن أوليائه، وحماها عن أصفيائه، وأخرجها من قلوب أهل وداده؛ لأنه لم يرضها لهم». فالدنيا في ميزان الله حقيرة، لا تساوي جناح بعوضة، ولا تليق أن تكون هي غاية من عرف الله، أو مقصد من ذاق حلاوة الإيمان.

الزهد في الدنيا راحة للقلب والجسد

الزهد ليس حرمانًا، ولا فقرًا مقصودًا، ولا تركًا للنعم، وإنما هو راحة عظيمة للقلب والجسد معًا. فالقلب الزاهد لا يضطرب لفوات شيء، ولا يجزع عند فقدان متاع، لأنه يعلم أن ما عند الله خير وأبقى. قال تعالى:
﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل: 96].

ومن أعجب فوائد الزهد أنه دواء للخوف من الموت، فإن من تعلق قلبه بالدنيا خاف فراقها، ومن زهد فيها أحب لقاء الله. ولذلك نجد درجات راقية من المؤمنين لا يرون في الموت أزمة ولا فاجعة، بل يرونه انتقالًا من دار إلى دار، ومن تعب إلى راحة، ومن غربة إلى وطن.

قال النبي ﷺ: «الكَيِّسُ مَن دانَ نفسَه، وعملَ لما بعدَ الموت، والعاجزُ مَن أتبعَ نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأماني»* رواه الترمذي.

فالكيس، أي العاقل الفطن، هو من حاسب نفسه، وضبط شهواتها، ولم يتركها منطلقة بلا زمام، تغرق في وحول الأهواء، وتُذلُّ صاحبها حيثما سارت.

حب الدنيا وحقيقة كراهية الموت

قال بشر بن الحارث رحمه الله: «ليس أحدٌ يحب الدنيا إلا كره الموت، ومن زهد فيها أحب لقاء مولاه». وهذا المعنى يوافق ما ثبت في الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال:
«مَن أحبَّ لقاءَ الله أحبَّ الله لقاءه، ومن كره لقاءَ الله كره الله لقاءه». رواه البخاري.

فالمسألة ليست تمني الموت، وإنما استعداد له، وشوق لما بعده، وطمأنينة بأن القادم خير، لمن صدق مع الله.

كن في الدنيا كأنك غريب

ومن أعظم ما يرسخ الزهد في القلوب، وصية النبي ﷺ الجامعة، التي رواها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال:
«أخذ رسول الله ﷺ بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». رواه البخاري.

وكان ابن عمر يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك».

وهذا التشبيه النبوي العجيب يوضح حقيقة الدنيا؛ فالغريب لا يتخذ المكان وطنًا، وعابر السبيل لا يثقل بالحمل، ولا يركن إلى الاستقرار. وكأن النبي ﷺ يقول: عش في الدنيا بجسدك، لا بقلبك، وخذ منها ما يبلغك، لا ما يثقل عليك.

ولو تأمل الإنسان حاله لو سافر إلى بلد لعدة أيام، لوجد قلبه معلقًا بوطنه الأصلي، وبيته، وفراشه، وموضع راحته، فلا يطمئن تمام الاطمئنان، ولا يستقر استقرار المقيم. وهكذا ينبغي أن تكون نظرة المؤمن إلى الدنيا، فإن وطنه الحقيقي هو الجنة، وموعده هناك.
حديث كن في الدنيا كأنك غريب,فوائد من حديث: كن في الدنيا كأنك غريب,شرح حديث: كن في الدنيا كأنك غريب ابن عثيمين

تجاوز المعطى إلى المُعطي

ومن أعظم ما يعين على الزهد في الدنيا، أن يدرك العبد أن كل ما حوله من نعم إنما هو من الله تعالى. فيتجاوز نظره المعطى إلى المُعطي، فلا يتعلق قلبه بالنعمة، وإنما يتعلّق بالمنعم.

قال الله سبحانه: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: 53].

الأبناء، الزوجة، المال، الأصدقاء، البيت، الصحة، الأمن… كلها نعم، لكن لا ينبغي أن يشغل حبها القلب عن الله، ولا أن ينسينا من وهبها لنا. فالله هو الذي جمعك بهم، وهو الذي إن أطعته جمعك بهم في دار كرامته.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: «والغالب أن الله يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، ويوسعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة من نصيب».

نظرة السلف إلى الدنيا

قال أبو حازم رحمه الله: «نعمةُ الله فيما زوى عني من الدنيا أعظمُ من نعمته علي فيما أعطاني منها؛ إني رأيته أعطاها قومًا فهلكوا».

وقال النبي ﷺ: «ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرة ثم راح وتركها».

وقال ابن القيم رحمه الله: «سماها الله متاع الغرور، وذم من رضي بها واطمأن إليها، فما اغتر بها ولا سكن إليها إلا ذو همة دنيئة».

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، يخاطب من جاء بعد الصحابة: «إنكم أطول صلاة، وأكثر جهادًا، من أصحاب رسول الله ﷺ، وهم كانوا أعظم أجرًا منكم». قالوا: لِمَ يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «لأنهم كانوا أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة».

حقيقة الزهد في الدنيا

وليس الزهد كما يظن بعض الناس ترك المال بالكلية، وإنما حقيقته كما قال ابن القيم: «ليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك».

وهذا هو حال الخلفاء الراشدين، وعمر بن عبد العزيز رحمه الله، تضرب الأمثال بزهدهم، مع أن خزائن المال كانت بأيديهم. بل هو حال سيد ولد آدم ﷺ، حين فُتحت عليه الدنيا، فلم تزده إلا زهدًا فيها.

قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24].
قال قتادة رحمه الله: «لما صبروا عن الدنيا».

في الختام، كن دائمًا على استعداد للرحلة العظمى، فإن العاقل هو من ترك الدنيا قبل أن تتركه. ومن تعلّق بحبل واحد، وهو حبل الله المتين، كان خروجه من الدنيا سهلًا جميلًا، كما أخبر النبي ﷺ: «تخرج روحه كما تخرج القطرة من فم السقاء».

قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾ [الواقعة: 88–89].

فلا تتعلق كليًا بشيء أنت تاركه، حتى لا يتمزق قلبك عند فراقه، وكن صاحب بصيرة. فالدنيا لا تستحق أن تضحّي من أجلها بمستقبلك الأبدي، ولا أن تخسر نعيمًا لا نهاية له من أجل متاع زائل.

نسأل الله أن يرزقنا الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وحسن الاستعداد للقاءه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
تعليقات